بقلم: أحمد رضي (كاتب بحريني)
في لحظة إقليمية مضطربة، تعود قضية سلاح حزب الله إلى
الواجهة، لا بوصفها نقاشًا سياسيًا فحسب، بل رهانًا على مصير لبنان ذاته. يغوص هذا
المقال في تعقيدات الملف، مستعرضًا دروس التجارب الدولية في نزع السلاح القسري،
ومحللًا المخاطر الوجودية التي قد تترتب على أي خطوة غير محسوبة تتجاهل معادلة
الردع التي تحمي لبنان من الفوضى والانهيار.
يُعدّ ملف سلاح حزب الله من أعقد الملفات وأكثرها حساسية
على المستويين اللبناني والإقليمي. فبينما يراه بعض اللبنانيين تهديدًا مباشرًا لسيادة
الدولة واستقرارها، يعتبره آخرون الركيزة الأساسية في معادلة الردع أمام إسرائيل، وسياج
الحماية الذي يمنع مشاريع التفتيت والتدخلات الخارجية.
وأي نقاش حول نزع السلاح لا يمكن أن ينطلق من المواقف السياسية
فحسب، بل يتطلّب إدراكًا عميقًا للمخاطر الأمنية والاجتماعية المحتملة، إذ قد تؤدي
أي خطوة أحادية إلى نتائج كارثية تهدد استقرار البلاد وتماسكها الداخلي.
دروس من العالم: لماذا تفشل محاولات نزع السلاح؟
نزع سلاح الفصائل المسلحة ليس مجرد إجراء إداري أو أمني،
بل عملية سياسية واجتماعية معقدة تتداخل فيها الهويات والانقسامات الداخلية بالتدخلات
الخارجية. والتاريخ
الحديث يقدم دروسًا دامية وكمثال: (العراق بعد 2003) تم حل الجيش وتفكيك الأجهزة الأمنية
مما أدى إلى فراغ هائل استغلته جماعات متطرفة مثل تنظيم "داعش". وفي (اليمن)
أدى غياب التوافق الوطني حول سلاح الحوثيين إلى حرب مدمّرة مستمرة حتى اليوم، مؤكدًا
أن أي خلل في التوازن الوطني يتحول سريعًا إلى كارثة طويلة الأمد. وفي (أفغانستان)
قيام طالبان بتسليم أسلحتها بلا إطار سياسي مستقر أدى لاحقًا إلى عودتها للسيطرة الكاملة
على البلاد، ما يثبت أن الأمن المؤقت لا يصنع سلامًا دائمًا. وأخيرا (أيرلندا الشمالية)
استمر النقاش حول نزع سلاح الجيش الجمهوري لعقود، دليلًا على أن الانقسامات والهويات
المتصارعة يمكن أن تطيل أي عملية من هذا النوع بلا نهاية.
أما في لبنان، فالوضع أشد هشاشة. التوازنات الطائفية والسياسية
الدقيقة تجعل أي محاولة لفرض نزع سلاح حزب الله بالقوة محفوفة بالمخاطر، أقرب إلى سيناريو
العراق أو اليمن منه إلى أي تجربة مستقرة. وبدون توافق وطني شامل، قد تتحول أي خطوة
إلى تهديد وجودي للدولة.
ذاكرة الدم: حين يتحول نزع السلاح إلى مأساة
التاريخ الحديث مليء بالدروس المروعة التي تثبت أن
التخلي عن السلاح بلا ضمانات قد يتحول إلى كارثة إنسانية. ولعلنا نتذكر ما حصل في (سربرنيتسا 1995) حيث أعلنت الأمم
المتحدة المدينة "منطقة آمنة"، وطالبت المقاتلين بتسليم أسلحتهم مقابل
وعود بالحماية، لكنها سقطت بيد القوات الصربية، وراح ضحية أكثر من 8 آلاف مدني. وحتى لا نذهب بعيدا.. نرجع بالذاكرة إلى (لبنان
1982 – صبرا وشاتيلا) حين تُركت المخيمات
الفلسطينية بلا حماية بعد خروج منظمة التحرير وتسليم سلاحها بموجب اتفاق دولي، ما
أدى إلى مجزرة مروعة ذهب ضحيتها آلاف المدنيين تحت إشراف الجيش الإسرائيلي. الدرس هنا واضح: نزع
السلاح دون إطار سيادي وضمانات وطنية حقيقية لا يجلب السلام، بل قد يفتح أبواب
المأساة.
خصوصية الحالة اللبنانية والتداعيات الإقليمية
حزب الله ليس مجرد فصيل مسلح، بل قوة سياسية واجتماعية
وعسكرية متجذرة، تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، وشبكة خدمات اجتماعية واقتصادية، وارتباطًا
بمحور إقليمي تقوده إيران. ويمتد تأثيره إلى شرائح لبنانية من خارج بيئته الطائفية،
ترى فيه ضمانة لمواجهة إسرائيل أو رمزًا للكرامة الوطنية.
والجدل حول السلاح يتوزع بين رأيين، الأول: يرى السلاح
أداة للهيمنة الداخلية ويعرّض لبنان لعقوبات دولية. والثاني: يعتبره الضمانة الوحيدة
لمواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي، وأي دعوة لنزعه خضوع لإملاءات خارجية تهدف لإضعاف
الدولة. ولا يمكن الحديث عن الساحة الشيعية دون الإشارة إلى حركة أمل، الشريك السياسي
الأبرز، الذي يمثل عنصر توازن داخل الطائفة. تجاهل موقفها في أي نقاش حول السلاح قد
يعمّق الانقسامات ويزيد المخاطر الداخلية.
وبالتالي أي تغيير في وضع سلاح حزب الله لن يقتصر على لبنان،
بل سيؤثر مباشرة على شبكة الردع الإقليمية التي تعتمد عليها إيران. إضعاف الحزب قد
يخلق فراغًا تسعى قوى إقليمية لاستغلاله لتعزيز نفوذها، بما فيها دول الخليج. وفي المقابل،
قد يدفع هذا الواقع إيران إلى تعزيز حضورها في مناطق أخرى، وبالتالي كل خطوة أحادية
في لبنان قد تعيد رسم موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.
السيناريوهات المحتملة: شبح الحرب الأهلية
أي محاولة أحادية لنزع السلاح من دون توافق وطني شامل تهدد
نسيج الدولة نفسه. الفراغ الأمني والسياسي قد يعيد إنتاج منطق العنف، وتظهر ميليشيات
محلية جديدة تملأ فراغ الأمن. والعنف يتخذ أشكالًا متنوعة: اغتيالات، تفجيرات، انتقاميات،
ما يوسع دائرة الانهيار لتطال الاقتصاد والمجتمع. وفي ظل التفكك الداخلي، يصبح التدخل
الخارجي شبه حتمي؛ فتتحول السيادة اللبنانية إلى ساحة صراع لمصالح إقليمية متصارعة.
أي مبادرة دون خطة وطنية متكاملة (جدول زمني، ضمانات مؤسساتية، إشراك شعبي واسع) تعتبر
مقاربة انتحارية.
والتجارب اللبنانية والإقليمية والدولية تثبت أن
استنساخ نماذج خارجية أو الركون إلى قرارات دولية مثل القرار 1559 لن يحل الأزمة.
ما يحتاجه لبنان اليوم هو حوار وطني جاد يعيد تعريف مفهوم "المقاومة"
ويضع استراتيجية وطنية تدمج سلاح حزب الله ضمن الدولة بدل نزعه بالقوة. وهذه الاستراتيجية الوطنية يجب أن تشمل: دمج سلاح المقاومة ضمن
الجيش اللبناني بخطة زمنية واضحة، مع ضبط استخدامه ضمن الإطار الوطني، وضمانات
سيادية صارمة تمنع استخدام السلاح داخليًا لأغراض حزبية أو طائفية، مع صياغة
استراتيجية دفاعية متكاملة تحدد مفهوم الردع الوطني وتضمن استقلال القرار اللبناني.
ختاما.. غياب الدولة خطر
كبير، لكن وجود دولة عاجزة عن الردع أخطر. التوافق الوطني، الحوار المسؤول،
والقرار السياسي المستنير هي السبيل لإنقاذ لبنان وضمان استمرار المقاومة كعنصر
حماية للشعب والوطن، لا كعبء على الدولة.
* صحيفة رأي اليوم، 8 نوفمبر 2025
http://tiny.cc/ypsu001
https://www.raialyoum.com/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%85/
