بقلم: أحمد رضي (البحرين)
دعونا نرافق الحشود التي تخطو بثبات نحو كربلاء لإحياء أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، لا لنرصد طقسًا دينيًا أو لنستعرض فصلًا من التاريخ، بل لنغوص في تجربة إنسانية كونية تكشف عن لغة عالمية للروح، لغة تحكي عن الحب، والكرامة، والوعي. إنها رحلة لا نهاية لها؛ وليست مجرّد مسيرة دينية، بل نافذة للتأمل في جوهر الإنسان حين يختار السير نحو المعنى، وحين يجعل من خطواته شهادة حيّة على أن القيم لا تموت، وأن الذاكرة الصادقة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
في قلب العراق، تتشكّل كل عام ملحمة الأربعين؛ ملايين السائرين
على درب كربلاء يحيون ذكرى سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع)، رمز المقاومة في
وجه الظلم. تبدو المسيرة طقسًا للبعيدين، لكنها في أعماقها رحلة تجمع الجسد بالروح،
الفرد بالجماعة، والألم بالحب. ليست كل الطرق تُقاس بالمسافات؛ بعض الخطوات تُنقش في
وعي الإنسان وتُرسم في ذاكرة القلب، وفي عالم يغرق بالتفاهة والضجيج، يولد الإنسان
من جديد على تراب طريق كربلاء.
مع الخطوة الأولى، يخلع الزائر أغلال العالم قبل نعليه؛
تاركًا خلفه رتابة الحياة وهمومها، تتلاشى الفوارق، لا غنيّ ولا فقير، لا قويّ ولا
ضعيف، فالكل سواء أمام النداء الخالد: «هل من ناصرٍ ينصرني؟». ينتشر عبق التراب الممزوج
بالعرق في الهواء، وتتماهى إيقاعات الأقدام مع ألحان متواضعة لكنها عميقة، تتعانق أصوات
الدعاء مع دموع الحنين، ويذكّر وجع القدمين بحقيقة الجسد، فيما يوقظ همس القلوب معنى
الوجود، هنا لا يكون الحبّ عاطفةً عابرة، بل طاقة تحرّرية تعيد للإنسان جوهره المفقود.
الألم يتحوّل من عبء جسدي إلى بوابة للوعي؛ فالقدم المجروحة،
والظمأ، والتعب ليست عقبات، بل مفاتيح لفهم أعمق للذات، تحت لهيب الشمس الحارقة أو
برد الليالي، يصفّى القلب، ويصبح الألم نداءً صامتًا ومقاومة للنسيان، ودليلًا على
أن الحرية الروحية تولد حين نتجرّد من زيف الراحة.
كربلاء ليست مكانًا فقط، بل رمز خالد للمقاومة ضد الظلم،
الحسين (ع)، الذي استُشهد عام 680م دفاعًا عن الحق، أطلق صرخة لا تموت: "هيهات
منا الذلة"، لذا لا تُقاس الحياة بطولها، بل بمدى قدرتنا على قول «لا» للظلم،
وبمقدار ما نضيفه من نور إلى ضمير العالم.
وعلى امتداد الطريق، يتجسّد الكرم في صور صغيرة عظيمة:
طفلة تمد كفها بشربة ماء بارد، شيخ يغسل قدمي غريب، وامرأة تفرش سجادة صلاة تحت ضوء
القمر لعابر سبيل، العطاء هنا ليس من باب الفضل، بل لأن «الآخر أنا»، الفرد هنا لا
يغيب في زحمة الحشود، بل يجد ذاته متصلًا بشبكة إنسانية نابضة بالحب والوفاء والكرم.
وحين يبلغ السائرون كربلاء، يدركون أنهم لم يأتوا إلى قبر
صامت، بل نحو مقام في الوعي وفكرة حيّة: أن الموت لا ينهي الحياة، وأن الدم قد يكتب
تاريخًا أنقى من المداد، يسمعون صدى صرخة الحسين: «هيهات منا الذلّة»، يستشعرون صبر
زينب وشجاعة العباس، ويتلوون دعاء زين العابدين، هنا تتبدّل مقاييس الحياة: لا تُقاس
بطولها، بل بمدى قولنا «لا» للظلم.
هذه المسيرة ليست حكرًا على دين أو طائفة؛ إنها لغة عالمية
للروح، وفي نهاية الرحلة، يعود الزائر، لكنه لا يعود كما كان، يبقى من كربلاء سؤال
يلاحقه: «ماذا أفعل اليوم لأنصر الحق؟». وهكذا يظل الدرب مفتوحًا.. درب محفوف بالدم،
ومبلّل بالحب، ومرصوف بخطوات لا تُختصر، الحرية تبدأ بخطوة حب، والخلود يولد من تراب
مبلّل بالدمع والوفاء، وفي مقام الحضور أمام الحبيب ينطق القلب: السلام عليك يا أبا
عبدالله.