بقلم: أحمد رضي (كاتب بحريني).
في كل عام، يحين الخامس عشر من أغسطس، ليطرح سؤالاً مؤرقاً في وجدان البحرين وشعبها: هل نالت بلادنا استقلالها حقاً؟
يُعد الخامس عشر من أغسطس عام 1971 لحظة محورية في تاريخ
البحرين السياسي المعاصر، ففي هذا اليوم، أعلنت البحرين رسميًا استقلالها عن التاج
البريطاني، منهيةً بذلك أكثر من قرن ونصف من الهيمنة الأجنبية، وراسمةً تطلعات وطنية
نحو الحرية والسيادة الكاملة. غير أن هذا الاستقلال، رغم تسجيله في الوثائق، لم يتحقق
بالكامل في الوجدان الشعبي ولم يُترجم إلى سيادة ناجزة على أرض الواقع. هذا التباين
يُثير تساؤلات حول طبيعة التحرر الذي حدث: هل هو استقلالٌ ناجز أم استبدالٌ
للوصاية بشكلٍ آخر؟ وهل تسلّم الشعب قراره أم انتقلت السلطة إلى حلفاء المستعمر؟ هذه
الأسئلة تُبرز مفهوم (الاستقلال المؤجل)، كمشروع وطني لم يكتمل بعد. فالسيادة لا
تكتمل برفع الأعلام وإلقاء الخطب، بل تتحقق حين يكون الشعب حرًّا في قراره، كريمًا
في معيشته، ومشاركًا في حكم وطنه.
تجدر الإشارة إلى أن بعض الوثائق الرسمية، كوثائق
الأمم المتحدة والحكومة البريطانية، تُشير إلى أن الاستقلال جرى في 14 أغسطس 1971،
ألا أن الإعلان
الرسمي المحلي تم في اليوم التالي، ما جعل 15 أغسطس هو التاريخ المُعتمد شعبيًا. ولكن الملاحظ أن نظام البحرين
لا يحتفل بذكرى 15 أغسطس، بل يحتفل باليوم الوطني في 16 ديسمبر، الذي يتزامن مع ذكرى
تتويج الحاكم الراحل عيسى بن سلمان. هذا الاختيار يُعكس دلالة رمزية تُعلي من شأن ارتباط
الدولة بشخص الحاكم بدلاً من الإرادة الشعبية التي قادت إلى الاستقلال.
الاستقلال بين القمع والنضال:
لم تأتِ لحظة الاستقلال كنتيجة طبيعية لتوافق الإرادة
الشعبية والنظام السياسي، بل كانت خلاصة معقّدة لمسارين متوازيين: مسار نضال شعبي
طويل، ومسار حسابات استراتيجية بريطانية. فعقب إعلان بريطانيا انسحابها من شرق
السويس عام 1968، بدأت ترتّب انسحابها من الخليج العربي بما يضمن بقاء مصالحها،
دون تمكين فعلي للشعوب من حق تقرير المصير. وفي البحرين، جاء تشكيل لجنة تقصّي
الحقائق التابعة للأمم المتحدة عام 1970 كغطاء دولي يوفّر الشرعية لانسحاب منظم،
أكثر منه استجابة صادقة لتطلعات البحرينيين.
لكن هذه الرواية الرسمية تُخفي خلفها عقودًا من الكفاح
الوطني المرير، قدّمه البحرينيون بمختلف تياراتهم، من قوميين ويساريين وإسلاميين،
في انتفاضات الخمسينيات والستينيات (أبرزها انتفاضة مارس 1965)، مطالبين بدستور
ومجلس منتخب وإنهاء الاستعمار. هؤلاء المناضلون لم يُكافَؤوا، بل جرى قمعهم
بشراسة، إذ لعبت بريطانيا دورًا مباشرًا في سحق تلك الحركات عبر جهاز "شرطة
البحرين" ولاحقا عبر الجهاز الأمني الذي أسّسه وأداره البريطاني إيان
هندرسون، بينما تحوّل "سجن القلعة" إلى رمزٍ للقمع السياسي، حُشر فيه
المئات من المعتقلين. وقد وثّقت تقارير
حقوقية لمنظمات دولية تلك الحقبة السوداء من الانتهاكات، لتكشف أن الاستقلال لم
يكن ثمرة نصرٍ شعبي حاسم، بل تسوية سياسية مفروضة، جرى خلالها الالتفاف على إرادة
شعبٍ كان قد دفع أثمانًا باهظة من دمه وحريته، من أجل وطنٍ يحكمه عقد اجتماعي
عادل، وطن لا يرجف فيه الأمل.
ورغم كل ذلك، فإن الوعي الشعبي المتجذر والضغط
المتراكم من القوى الوطنية كانا عاملين حاسمين في إرغام بريطانيا على الاعتراف
بمبدأ الاستقلال، وإن أفرغته لاحقًا من مضامينه الديمقراطية. وهكذا، فإن استقلال
البحرين كان مولودًا من رحم القمع، لكنه مشبعٌ بروح النضال، لحظةٌ رمزية تتداخل
فيها التضحيات الشعبية مع واقع الهيمنة الاستعمارية.
شخصيات وقوى صنعت لحظة الاستقلال:
لا يمكن الحديث عن استقلال البحرين دون التوقف بتأمل
أمام نضال شخصيات وطنية تاريخية وقوى شعبية صنعت الموقف وأسست لمرحلة الوعي
بالاستقلال الحقيقي. لقد لعب قادة المعارضة البحرينية، ومن بينهم علماء دين،
وطنيون، وناشطون يساريون، دورًا محوريًا في مقاومة الاستعمار البريطاني، ورفضوا
الهيمنة السياسية بكل أشكالها، مطالبين بتمكين الشعب من تقرير مصيره عبر دستور
ديمقراطي حقيقي. كما كان للحركة الطلابية البحرينية في الخارج، خصوصًا في بيروت
ودمشق وبغداد، دورٌ مؤثر في فضح التبعية السياسية والاستعمار المقنّع، ورفع راية
المطالبة بالحرية والعدالة. ولا ننسى الدور الكبير لهيئة الاتحاد الوطني (منتصف
الخمسينيات) كحركة شعبية جامعة، لعبت دوراً محورياً في توحيد الصف الوطني وإيقاظ
الوعي، ورغم قمعها، مهدت الطريق للنضال المستمر من أجل استقلال البحرين.
جميع هؤلاء النشطاء والمثقفين والمناضلين، إضافة إلى
الشهداء والمعتقلين، هم من عبدوا الطريق نحو تلك اللحظة المفصلية في تاريخ
البحرين، حين قال الشعب كلمته في وجه الاستعمار، معلنًا أن الاستقلال ليس وثيقةً
تُوقّع، بل مسيرة تضحيات ووعي متراكم لصناعة وطن حر. فالتاريخ لا يُكتب بالحبر
فقط، بل بدماء الأحرار وصبر الشعوب.
من الاستقلال إلى دستور 1973:
لم تكن لحظة الاستقلال مجرّد حدث بروتوكولي، بل كانت
ثمرة نضال طويل قاده شعب البحرين بتضحيات جسام قدّم فيها القادة الوطنيون
والمواطنون الشجعان أرواحهم في سبيل الحرية والكرامة. وقد مثّل صدور دستور 1973
ومجلس النواب المنتخب آنذاك بارقة أمل في تحقيق استقلال فعليّ يُعبّر عن إرادة
الشعب ويضع البلاد على طريق الشرعية الدستورية. لكن سرعان ما خذلت السلطة هذه
الثقة التاريخية، فأقدمت في عام 1975 على تعليق العمل بالدستور وحلّ البرلمان المنتخب،
لتدخل البلاد في نفق مظلم تحت وطأة "قانون أمن الدولة" القمعي، الذي
جرّد الاستقلال من مضمونه وحوّله إلى قيد جديد يطوّق الحريات. وهكذا، تحوّلت ذكرى
الاستقلال إلى ذكرى مؤجلة، والفرصة إلى حسرة، وتبدّدت آمال بناء دولة مدنية عادلة
تحت سطوة القبضة الأمنية.
استقلال مؤجل ومشروع مستمر:
لا تكمن عظمة ذكرى الاستقلال الوطني في كونه مجرّد
ذكرى لانفصال جغرافي عن قوة استعمارية، بل في كونه شاهدًا على حلمٍ وطنيٍّ عميق،
تشكّل من تضحيات الشعب البحريني، ونضالات قادة المعارضة، ودماء الشهداء الذين
خطّوا طريق الحرية بوعيهم ومواقفهم. إن الاستقلال لا يُختزل في لحظة رفع العلم، بل
يُقاس بمدى تحقق مشروع الدولة العادلة التي تقوم على سيادة الشعب، والمشاركة
السياسية الفاعلة، والعدالة الاجتماعية، واحترام الحريات. ومع ذلك، في كل عام تحلّ
ذكرى 15 أغسطس لتفتح جرح السؤال الوطني الكبير: هل أنجزت البحرين استقلالها حقًا؟
فبينما تحتفل دول الجوار بالمناسبة، يعيش الشعب واقعًا مغايرًا تتجسد فيه الأزمة
السياسية الخانقة، وغياب الإصلاح، ومصادرة الحريات، وتهميش قوى المعارضة، واستمرار
التراجع في سجل حقوق الإنسان.
لقد كان الاستقلال ثمرة تضحيات جسام قدمها أبناء
البحرين، وقادتها الوطنيون، وشهداؤها الأبرار، ممن ناضلوا من أجل وطن حرّ ودولة
عادلة. لكن الحلم الذي اشتعل في القلوب لم يكتمل بعد، ولا يزال المشروع الوطني
معطلاً ينتظر عقدًا اجتماعيًا جديدًا، يقوم على دستور يعكس إرادة الشعب، وانتخابات
حرّة نزيهة، ومصالحة وطنية جادّة وشاملة تعيد للبحرينيين كرامتهم وتفتح أبواب
المستقبل لأجيالهم.
رحلة مستمرة نحو الحرية:
ليس 15 أغسطس مجرد تاريخٍ يُحتفل به رسميًا، بل هو
عنوانٌ نضاليٌّ مفتوح على أسئلة الحاضر واستحقاقات المستقبل. إنه شهادة حيّة على
تضحيات شعبٍ لم يتوقف عن المطالبة بحريته، من نضالات قادة المعارضة في الستينيات
والسبعينيات، إلى انتفاضات التسعينيات، وصولاً إلى ثورة 14 فبراير.
هو اختبار دائم لصدق السلطة في احترام الإرادة
الشعبية، وعهدٌ أخلاقيٌّ على القوى الوطنية أن تواصل كفاحها السلمي من أجل استكمال
الاستقلال الحقيقي، وبناء دولة عادلة تُعبّر عن صوت الإنسان البحريني، وتصون
كرامته، وتمنحه حقه في تقرير مصيره دون وصاية أو قمع.
فالطريق إلى الاستقلال الحقيقي لم يكتمل بعد، وجذوة النضال لن
تنطفئ أبدا. ما لم تُترجم التضحيات إلى
عدالة، ستبقى ذكرى الاستقلال ذكرى ناقصة لوعدٍ لم يكتمل بعد.