المحب لكم: أحمد رضي (البحرين).
من عمق الفجيعة ورماد الخذلان، تنبعث روح غزة كصرخة أزلية. ليس دوي قذيفة، بل نبض روح ونداء يرتجف له ضمير الزمن. من جسد أبي عبيدة النحيل، المتواري خلف كوفية الصمت، تتجسد فلسفة الألم المقدس وشهادة الوجود المقاوم.
في زمن تئن فيه الأرض تحت التجويع والدمار، يخرج أبو عبيدة، لا بلسان السياسيّ، بل بـلغة الجراح التي تنوء بثقل المعاناة. صمته يتكلم ببيانٍ يفوق كل بلاغة، ووجعه ينطق بما عجزت عنه الألسن. كلماته ليست سهامًا للعدو، بل خناجر تُغرس في خاصرة "الأشقاء" المتخاذلين، شهود الزور على محرقة العصر.
خطابه أشبه بـمحكمة ضمير كونية، يتلو فيها لائحة اتهام ضد الصمت والتواطؤ، كاشفًا وجوهًا تلطخت وانتحرت أخلاقيًا أمام جثث الأطفال وأمعاء الجائعين. يعود لا ليشكو الحصار، بل ليشهد العالم على وجع الخذلان، وليُعيد تعريف العزة في زمن الانكسار.
إنه تقريعٌ نبويٌّ، عارٍ من الدبلوماسية، وعتابٌ لا يعرف الالتواء، موجهٌ للأنظمة، والنخب، والعلماء، والجماعات التي ادّعت النصرة وتخلّت ساعة الابتلاء.
كلماته تتردد كصيحة الحق في يوم الحساب: "أنتم خصومنا يوم القيامة... شركاء في جوع أطفالنا، وتخاذلكم لعنة لن تسقط بالتقادم." ما أثقلها من كلمات على من بقي فيه ضمير! إنه ليس عتاب عابر، بل بلاغُ محكمةٍ إلهية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المظلوم، ولا ميزان إلا العدل الإلهي.
بعد عامين من الإبادة والتجويع، يخرج أبو عبيدة ناطقًا باسم الشهداء، بخطاب حمل في أحرفه غضب السماء ووجع الأرض. الاحتلال راهن على الجوع ففشل، راهن على الكسر فازدادت غزة صلابة، راهن على الوقت فكان الوقت في صف المظلوم.
ولعل خطابه يمهّد لانبعاث جديد في جسد الأمة، صحوة يقودها العلماء والأحرار، عنوانها: "تحركوا... قبل أن يُغلق باب السماء." غزة ليست مدينة، بل نبوءة إلهية. جوعها ليس عجزًا، بل وقود لكرامة لا تموت. أطفالها ليسوا ضحايا، بل شهودٌ خالدون على عصر الخذلان. وكتائبها لا ترسم حدود وطن، بل تكتب بدمائها حدود الشرف والكرامة.
يبقى صوت أبي عبيدة يتردد كـترتيلة صوفية لا تُمحى. إنه ليس صدى عابر، بل بصمة عميقة على جبين التاريخ، ودعوة فلسفية لوحدة المصير بين الروح والجسد. نداء يُذكّر بأن قيمة الوجود لا تُقاس بما نملك، بل بما نضحي لأجله، وبما نصدق فيه عهد الله والمستضعفين.
فلتكن كلمات أبي عبيدة منارة تضيء دروب التائهين، وصرخة توقظ الساكنين، ووصية محفورة في وجدان كل من آمن بأن الحق لا يموت، وأن الباطل إلى زوال، وأن النصر، وإن طال ليله، ففجره آت لا محالة، بإذن الله القوي العزيز.