في ذكرى ميلادي، المتزامنة مع ذكرى تحرير جنوب لبنان (٢٥ مايو)، جلستُ مع نفسي كما يفعل الفلاسفة في عتمة الليل، وقلت: العُمر؟ إنه مجرد رقم! كرقم الطاولة في مطعم مزدحم، لا يضمن لك طبقًا شهيًّا، ولا مكانًا مريحًا!
وربما هو رقم مطبوع على بطاقة الهوية، لا أكثر. أما في القلب، فالعمر لحظات مشبعة بمشاعر متقلّبة بين فرحٍ خجول، وحزنٍ عنيد، وألمٍ يتسلل في غفلة من الفرح.
أكون طفلًا حين ألاعب الصغار بمرح، أو أضحك على نكتة من صديق عزيز. ومراهقًا إذا خفق قلبي لمشهد في فيلم أو رسالة قديمة بين صفحات كتاب. وأتحوّل إلى شيخٍ حين تفوتني قيلولة العصر، أو حين يوقظني هاتفٌ مثقلٌ بالأخبار أو زائر في غير أوانه أو تصلني فاتورة الكهرباء!
العمر الحقيقي؟ هو لحظة أقرأ فيها كتابًا يعيدني إلى مغامرات الطفولة، أو يشعل في عقلي سؤالًا يهزّ أركان العالم بحثًا عن جواب. هو حين أتابع مباراة وأشجّع الفريق الخصم حبًّا في التحدي، أو أصرخ على بطل فيلم كأنني أحد أفراد طاقمه!
هو دهشة السفر، حين تبهرك تفاصيل صغيرة كزرّ المقعد، وتبتسم للمضيف كأنك عصفور يُحلّق في سماء الحلم. وهو ضحكات الأصدقاء في ليالٍ طويلة، نعود منها إلى بيوتنا نحمل في قلوبنا صدى الذكريات وأحلام لوطن نرسم مستقبله، مع عبق الشاي بالنعناع أو مرارة القهوة التي لا تخلو من فرحٍ غامر.
ولكنني لا أنسى… ففي زوايا القلب مقاعد شاغرة، غادرها من كانوا يومًا نورًا في حياتنا، وتركوا خلفهم فراغًا لا يُملأ. كم من ضحكة تُبكينا حين تمرّ في الخيال صور من رحلوا، وكم من قريبٍ ظنناه وطنًا، فإذا به منفى! بعض الجراح لا تُرى، لكنها تغيّر نظرتك، طريقتك في الجلوس، وحتى نبرة صوتك.
ومع كل ذلك، أقول لنفسي في هذا اليوم: العمر لا يُقاس بعدد الشموع، بل بعدد اللحظات التي عشتها بكامل روحك؛ قريبًا من الله، ساعيًا لرضا الوالدين، حاضرًا مع أهلك وعائلتك وأصدقائك ومن تحب.
فشكرًا لمن جعلوا السنين شريط ذكريات لا يُنسى، وللضحكات التي خففت عن القلب وحشة الطريق، ولكل لحظة أعادتني للحياة… ولو مؤقتًا.
وتبقى الحياة... قلمٌ، وكتاب، ورحلة سفر.