5 يناير 2009
كان الأب
المصلح.. والشاعر الخطيب.. ورجل الدين القائد
ذكريات
المنبر الحسيني مع المرحوم الجمري
* تحقيق أجراه- أحمد
رضي:
يأتي
التحقيق التالي من أجل إلقاء الضوء على تجربة الخطابة الحسينية لدى المرحوم الشيخ
عبدالأمير الجمري، والتعرف على عوامل الجذب والقوة في خطابه وتجربته الشعرية، بحكم
تجاربه الطويلة مع الحياة من خلال رواية لذكريات المقربين منه والدارسين والمطلعين
بشئون الخطابة الحسينية في البحرين.
· ذكريات لا تنسى
مع شيخ المقاومة:
يحدثنا
الشيخ عبدالهادي المخوضر (رجل دين ومدير حوزة الجمري) الذي كان يرافق الشيخ في
تنقلاته عن ذكرياته مع المرحوم الجمري قائلاً: الخطابة كانت تمثل محور مهما في حياة
الشيخ وكانت هماً رئيسياً عنده منذ بدء حياته وحتى أواخر سنيّه، وعلى الرغم من تعدد
اتجاهاته وثقل مسؤلياته رأى سماحته ان الخطابة مسؤلية ملقاة على عاتقه كغيرها من
المسؤليات لا تقل أهمية، وفي أحلك الظروف الأمنية - التي مر بها أذكر في بداية
التسعينات حيث الأغلب من المآتم لم تتمكن من دعوته ليكون خطيباً لها في شهر محرم
عدا مأتمين فقط - كان رحمه الله يصر على مقاومة الظروف الشائكة ليعيد أمجاد خطابته
والتي كانت مزدهرة في فترة شبابه.
وذكر
المخوضر بأنه طلب من المرحوم يوماً أن يحكي له عن خطابته فكان مما ذكره أنه وفي
اثناء اقامته في العراق كان يدعى في الموسم ليكون خطيبا في البصرة وغيرها من مدن
العراق وكان صوته في تلك الفترة يتمتع بالحيوية والصفاء والشجى، فلما انعطف عليه
الزمان تبقت نبرة الحزن والشجى لتعكس قدرة قديمة متمكنة على هذا الفن.. ومع ذلك فإن
صوته بقي وحتى آخر سنواته جذاباً الى حدِ ملحوظ. وكان أثناء خطابته يركز على
المواضيع الحية التي تعالج قضايا المجتمع العامة السياسية والاجتماعية، وكان يصدح
بالحق ولا يخاف لومة لائم. وفي المقابل كانت خطابته مرصودة أمنياً في السنوات
الأخيرة وكان ذلك هو السبب في أن يحظر عليه الخطابة ويحاصر بدءاً من عام 1993م اذ
لم يجرأ احد من المآتم ان يدعوه للخطابة في الموسم الا ما نذر.
· أسلوبه الخطابي..
تاريخي وشيق:
ويشير
المخوضر إلى أن أسلوب العرض لدى الجمري كان يتمتع بأسلوب جذاب يتمازج فيه العرض
الجاد المبسط المتسلسل، وكان يبتعد عن العبارات المعقدة الغير مفهومة. وكان يستفيد
من ثقافته القديمة كثيرا والتي كانت في درجة عالية متميزة، وكان ينتقل من الموضوع
الى عرض المصيبة بشكل سلس لا يحس معه المستمع بأية فجوة، وكان يحافظ على التراث
القديم بشكل كبير. وفي احدى المرات كان -في اليوم الثامن- يتحدث عن القيمة
التاريخية لموضوع زفاف القاسم وذكر انه لم يثبت لهذه الواقعة المدعاة خبر ولا أثر،
ولكنه وفي عرضه للمصيبة جرى على وفق المألوف وذكر حادثة الزفاف المخترعة وذكر معها
أبيات الملا عطية. وبعد المجلس قلت له لقد ضاع تعبك الذي بذلته في بيان بطلان نظرية
زفاف القاسم فقال وكيف ؟ قلت له لانك اثبته من جديد في الخاتمة ( المصيبة ) فقال:
لابد من المحافظة على التراث وان كان فيه ما فيه اذ هو يمثل الثقافة التي انشأت
الجيل الصاعد وكل الجمهور يتفاعل مع الحادثة ويعلم الآن أنها ليست واقعية فلا ضير
اذن.
· مكونات وسمات
الخطاب الحسيني:
الشاب
الشيخ عمار تيسير الشهاب (خطيب حسيني) يستعرض معنا ذكرياته مع المرحوم الجمري
قائلاً: لا زالت تجـول بخاطري تلك السنوات (أوائل التسعينيات) التي كنت أواظب فيها
كل ليلة من ليالي عشرة محرم الحرام و ليالي الوفيات من شهر صفر على حضور مأتم بن
سلوم بالمنامة للاستماع إلى مجالس سماحة الشيخ عبد الأمير الجمري (رض). كنت ذلك
الصبي ذي الأربعة عشر ربيعا، والذي بدأ ينفتح للتو شيئا فشيئا على الحياة و
الممارسات الاجتماعية بكل تنوعها. لقد شغفت بالممارسات والمراسيم الحسينية أيما
شغف، وتعلقت بالخطابة والخطباء ـ و يرجع هذا بطبيعة الحال للتأثر بالمحيط الأسري و
المناطقي المفعم بهذا النوع من الممارسات والمراسيم في بلادنا البحرين وبالخصوص
العاصمة المنامة أو كربلاء الثانية كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، حيث الحسينيات
والمآتم والخطباء والمجالس ومواكب العزاء واللطم.
ويضيف
الشهاب لقد جذبتني خطابة شيخنا الجمري بما فيها من وعظيات مسؤولة، ونقد خبير،
وإطلاع واسع، ومحاكمات تاريخية متقنة، ومعالجات لمشاكل الأفراد والمجتمع بمراهم
طبيب اجتماعي ماهر. جذبني كما كان يجذب شريحة واسعة من الشباب المثقف الواعي، وكان
يلتقي بهم بعد خطاب المنبر ويتعرف على قضاياهم و يتصل بهمومهم بصدر واسع وقلب كبير
وفق ما يقتضيه واجبه الرسالي والتوعوي. وعرفت كما عرف الجميع الشيخ وخطاباته
السياسية بعد ذلك، تلك الخطابات التي كانت تحمل الهم الأكبر والقضية الكبرى التي
نذر شيخنا أبو جميل ( رحمه الله ) نفسه من أجلها، فكان ابن بجدتها، وفارس ميدانها،
وقطب رحاها.
وعن أهم
سمات وخصائص الخطاب الحسيني للشيخ الجمري يذكرها الشهاب: هناك عدة مكونات وعوامل
كان لها الأثر البالغ في تصوري في تشكيل تجربة الخطابة الحسينية لدى شيخنا الجمري
(قده)، جعلت منه خطيباً لوذعيا يشار له بالبنان، وبوأته المكانة اللائقة في معسكر
الأساتذة من خطباء المنبر الحسيني الشريف، ومن أهم تلك المكونات والعوامل: تتلمذه
(قده) وأخذه الخطابة على جملة من أساتذة المنبر المبرزين كالملا جاسم الجمري،
والخطيب الشهير الملا عطية الجمري وابنه الملا يوسف الجمري، فقد استفاد من تجاربهم
وخبراتهم المنبرية ونماها لديه حتى استقل بنفسه خطيبا متمكناً مهيمناً مبدعاً.
بالإضافة إلى دراسته في المدارس الرسمية النظامية، والتي كان كثير من الأهالي
يعزفون عن إرسال أبنائهم للتعلم فيها ـ بسبب طبيعة التفكير الإجتماعي في تلك
المرحلة الزمنية ـ مما جعله مميزاً مؤهلاً للانفتاح على المعرفة والاطلاع بشكل أكثر
إحاطة ووعياً مما أثر على خطابته.
وبهذا
الصدد يذكر المرحوم الجمري (تغمده الله برحمته الواسعة) في مذكراته بعض أسباب
اشتهاره وتوفيقه خطيباً قائلاً: ما وفقت له من اقتناء الكتب الحديثة والاستفادة
الملحوظة من الأقلام الناضجة، بحيث كان ما أقرؤه يلفت النظر ويعجب المستمعين لاسيما
المتعلمين، فقد استفدت من كتب آية الله الشيخ محمد أمين زين الدين رحمه الله، ككتاب
الإسلام، وكتاب من أشعة القرآن، وكتب الأستاذ أبو الأعلى المودودي، ككتاب المال
وتداول الثروة في الإسلام. وكتب الأستاذ عباس العقاد، ككتاب عبقرية محمد (ص). وكتب
غير هؤلاء مما كان متوفراً في مبادئ قراءتي… ولقد كنت أتطرق – وأنا في تلك الفترة
إلى مواضيع ما كانت يُتطرق آنذاك إليها في المنابر البحرانية، كموضوع الحرية،
وموضوع الاقتصاد، وموضوع الرق وموقف الإسلام منه، وموضوع الوحدة، وهلمّ جّراً.
وينسب
الشهاب نجاح وتفوق الجمري في مجال الخطابة الحسينية إلى هجرته العلمية (رحمه الله)
إلى النجف الأشرف وانخراطه ضمن صفوف طلبة العلوم الدينية مما ترك أثر بالغ على
تجربته الخطابية، حيث أكمل المقدمات و درس العلوم الحوزوية على يد أكابر فضلاء حوزة
النجف الأشرف، وحضر (قده) الأبحاث العالية لدى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رحمه
الله)، كما حضر بحث الخارج للسيد أبي القاسم الخوئي (رض)، فأسس بذلك شخصيته العلمية
التي أنعشت بدورها شخصيته الخطابية في مجال المنبر الحسيني.
مضيفاً
بأن الشيخ الجمري قد حافظ على التجديد في مجال الخطاب المنبري مع المحافظة الرصينة
على روح الأصالة في عالم المنبر والخطاب الحسيني، كان لها الأثر الكبير على تجربة
خطابته الحسينية. فقد مزج بين الجدة في الطرح و مبدأ التأصيل، فحافظ بذلك على
الثوابت المنبرية المتوارثة وساير ما تقتضيه متطلبات العصر في هذا الصدد في آن
واحد.
* خطاب واقعي لا خطاب
أزمات:
* شخصيته الأدبية
والشاعرية:
يقول
الشهاب بأن الجمري (رح) كان يملك يراعا طيعا سيالا، كما كان يمتلك شاعرية مرهفة
رقراقة ، حيث يشهد له بالأول كتاباته و مؤلفاته ومنها: من تعاليم الإسلام، والمرأة
في ظـل الإسلام. و يشهد له بالشق الآخـر ديوانه الشعري عصارة قلب. وكما يقولون:
الكتابة توأم الخطابة ورديفها، فكيف إذا اتشحت الكتابة بوشاح أدبي وشاعري أنيق، لا
بد إذا أن تلقي بظلالها الوارفة على الخطيب المفوه المقتدر، وهذا ما تم لشيخنا
الجمري. ويضيف الشهاب إن لمنصب الجمري كقاض شرعي وكنائب برلماني عن منطقته ـ مارس
من خلالها التلاقي مع هموم المجتمع ومشكلاته ومعاناته، وتطلعات الشارع وآماله لردح
من الزمن، كان لهذا أثرا مهما في صياغة الشخصية الاجتماعية للشيخ الجمري، وبالتالي
فلا بد أن ينسكب كل هذا على خطابته ومنابره ووعظياته.
* رؤيته للمعارضة
وللأزمات السياسية والاجتماعية:
ويضيف
السماهيجي، أمّا رؤيته للمعارضة فقد ارتبطت ارتباطًا مباشرًا بتلك النظرة التي
أشرتُ إليها آنفًا. كان خطابه في الأزمات المختلفة منسجمًا مع رؤيته للمعارضة.
المعارضة باعتبارها إصلاحًا، تتوسّل الطرح السلمي للتغيير، بعيدًا عن العنف وسفك
الدماء. ولم يؤثر عنه، قط، أية دعوة لاستخدام العنف ضد أي طرف من الأطراف، مهما بلغ
الطرف الآخر من القسوة والتمادي في انتهاك حقوق الشعب.
ويؤكد
السماهيجي بأن هذا النَّفَس الذي نشير إليه، يقع على أحد مصاديقه في تعامله مع منصب
القضاء، ودخوله المجلس الوطني الأول. فقد كان النفس الإصلاحي واضحًا في تحركاته،
وفي مواقفه من الأطراف الأخرى. وقد رأينا وسمعنا عن الكثيرين من الذين كانوا
يحاولون النيل من شخصية سماحته طيلة سنوات كثيرة، ولكنه- بحكمته وصبره وخوفه على
شعبه- كان يعالج الأزمات المختلفة بعطف العالِم وسماحته الموروثة عن أهل البيت ع.
ولذلك استطاع أن يصل إلى أعماق وجدان هذا الشعب، وأن يكون من الشخصيات التاريخية
الأولى التي إذا ذكرت فإنما تذكر بإكبار وإعجاب.
* علاقة أدبية
خاصة:
من جانب
آخر يذكر أن للشاعر السماهيجي علاقة أدبية خاصة بالمرحوم الجمري، يعبر عنها قائلاً:
أظن أن علاقتي الأدبية بسماحته كان لها طابعها الخاص. فقد كان على اطلاع على لحظة
البدايات الشعرية. ولا زلت أحتفظ بتعليق له بخطه الشريف على أحد النصوص، ويعود
تاريخ هذا التعليق إلى ما قبل ستة عشر عامًا تقريبًا. أمّا ديوانه الشعري (عصارة
قلب)، فقد كنت على اطلاع عليه منذ كان مخطوطًا. وقد تشرّفت حينَها بأن كتبتُ
تقريظًا له. وللقارئ لديوانه (عصارة قلب) أن يجد فيه سجلاًّ حافلاً لأشواق وتباريح
الجمري القائد والأب والصديق… وفوق ذلك كله، الجمري الإنسان. هذا الذي احترق قلبه
على وطنه وشعبه. كان الشيخ، وهو الأديب ذو الحس المرهف، يجد بعضًا من السكينة
والقرار في ما خطّه قلمه من أبيات تحتاج إلى قراءة خاصة، وإلى إعادة ربط بمجمل
الحدث الذي تخلّق منه وخلّقه هو، رضوان الله عليه.
* خطابه.. يدمج الأصالة
بالحداثة:
ويضيف
الجمري كانت لقصائد المرحوم أثرها على المستمعين في المناسبات الدينية عندما
يلقيها، وجاء ديوانه الشعري ليعبّر عن تجربة أدبية فنية متميزة، فيما يتعلق
بالمستوى الأدبي الفني في البحرين. وبالنسبة لخطابه السياسي وأدائه فيما يتعلق
بالمتغيرات وتقييم الساحة كان خطاباً مستقلاً، حتى بعد أن التقى بالتيارات السياسية
في الهدف.
* نشرة عاشوراء- السنة السابعة، العدد (4)، الأثنين 8 محرم 1430هـ- 5/1/2009م
* موقع قرية السنابس: http://www.alsanabis.com/index.php?show=art&newsID=4810